مجتمع

المقعد البرتقالي.. حكايات ضحايا لم يعيشوا دور الضحية

الضعف ليس عارًا، لكن التمادي في دور الضحية هو الهزيمة الحقيقية. النجاة قرار.. فهل تجرؤ أن تختارها؟

future غلاف كتاب «المقعد البرتقالي.. حكايات ضحايا لم يعيشوا دور الضحية» (عصير الكتب- 2025)

يأتي اللون البرتقالي في موقعٍ بين الأحمر الناري والأصفر المشمِس، حاملاً في طيّاته مفارقة مدهشة بين الدفء واليقظة، بين الطمأنينة والانتباه، بين الحكاية والصرخة. ليس لونًا صاخبًا كالأحمر، ولا باهتًا كالأصفر، بل يقف بينهما كما يقف الإنسان أحيانًا بين الضعف والقوة، بين الألم والقدرة على تجاوزه.

على غلاف كتاب «المقعد البرتقالي.. حكايات ضحايا لم يعيشوا دور الضحية» (عصير الكتب: 2025)، لا يأتي المقعد كرمزٍ للراحة فقط، بل كمسرحٍ لبوحٍ مؤجَّل، وكمساحة تضيء بألوانٍ لم تطفئها التجربة القاسية. إن هذا اللون، بتوهّجه الصادق، يُمهّد للقارئ طريقًا إلى قصصٍ لا تستجدي الشفقة، بل تروّض الضعف وتحوّله إلى إدراك وشفاء.

قصص يرويها من عاشوا ألمها بلسان الشاهد لا الضحية، لأن «الحياة تقدّم لنا فرصًا لا نهائية لتغيير مصائرنا، لكننا لن نكتشفها ما لم نتحرر من قيود الخوف ودوائر الألم المعتادة». فالسجن الذي شكّله الألم والصدمات النفسية حول الضحية قد يحمل في نهايته بابًا يفتح نحو نور التعافي، إن اختار الشاهد أن يخطو نحوه.

تعرض الطبيبة النفسية الدكتورة ماجي الشافعي في كتابها الصادر حديثًا نماذج بعضها شائع بيننا أكثر من غيره، لتسرد تجارب التعافي التي ليس من بينها وصفة سحرية لاختفاء الألم. تروي لنتعلّم كيف نحيا مع الألم، لا كيف نهرب منه، لأن الهروب لا يُنقذنا، بل مواجهته بصدق هي البداية. فهل حقًّا ننجو؟ وكيف ننجو؟

للنجاة أشكالٌ عدّة، فالبعض ينجو ويتفاخر بنجاته، والبعض ينجو ويؤثِر الصمت، والبعض ينجو ليصبح أكثر إبداعًا، والبعض لا ينجو بينما يتظاهر بذلك. وقبل ذلك، عليك أن تُرسّخ بداخلك الإيمان بأنه لا عودة للماضي لتغييره، لكن الفرصة قائمة لوقف الألم والأذى وعدم نشره من بعدك.

إساءات الأهل

«هناك أناسٌ تحيا وتموت دون أن تدرك ما يفوتها من المشاعر والعمق في العلاقات الإنسانية، دون أن تدرك كيف للرابطة النفسية بين الآباء والأبناء أن تتحوّل لأكثر من مجرد واجب أو ردّ جميل. كيف تتحوّل إلى شيءٍ أكبر من مجرد معاملة بدافع الواجب، الخوف، أو حتى الإحساس بالذنب! هذه الرابطة قد تكون في جوهرها ملاذًا وملجأً عاطفيًّا للطرفين، مليئة بالحب والثقة التي تجعلها فريدة ومقدّسة».

تندرج العديد من فصول الكتاب تحت هذا العنوان العريض الذي لم يُكتب. فيه عقوق الآباء الذين يضنّون على أطفالهم بالمشاعر بدعوى الخشونة؛ فلا أحضان، ولا تلامس عاطفي ضروري، بينما ما يفسد الأطفال هو الإهمال والقسوة والتجاهل، وإرث الألم الذي يُورّث للأبناء، وغياب الأب، والتحفيز السلبي بعقد المقارنات، أو الإجبار على سلوك تخصّص دراسي أو مهني مع تجاهل رغبات الابن وقدراته الحقيقية، بدلًا من أن يساعد الأهل ابنهم ليكون أفضل نسخة منه.

فيه الاعتذار الذي هو من شيم الكبار، حتى لو كان من الأب لابنه، لكي يكبر الطفل مدركًا أهمية الاعتذار إن أخطأ، وأنه يستحق أن يُعتذر إليه من أخطأ في حقه، وألا عليه أن يقبل الإهانة أو سوء المعاملة. الاعتذار الحقيقي الذي يتضمن أسفًا واضحًا وصريحًا، وتحملًا كاملًا للمسؤولية عن الخطأ، وطلبًا للسماح بصدق وبدون ضغط، مع تقديم وعد حقيقي بالتغيير والتنفيذ الفعلي، أي تحوّل الاعتذار والوعود إلى أفعال ملموسة.

فيه أمهاتٌ لأطفالٍ ذوي احتياجات خاصة، تعاملوا مع صغيرهم الذي كُتب عليهم، على أنه ليس عبئًا، ولا مشروعًا عليهم إنجازه بشكل مثالي، بل رحلة من الاكتشافات والتعلّم، مدركين اختيار الله لهم بعناية لهذه المهمة، لأنهم الأقدر على خوضها بقلوبهم.

فيه أطفالٌ غير مرغوب فيهم، إما أتوا على غير طلب أو خطأ، أو كان المرجو ذكرًا فجاءت أنثى، لتُعامل كذكر في الملابس وقصة الشعر، وغيرها من الأمور التي تعكس رفض أسرتها لهويتها وخِلقتها، بما يُعمّق كراهية الذات قبل كراهية الأهل. وما يزيد الأمر سوءًا إن وُجد الذكر والأنثى، فكان الميل أوضح. أذكر عبارة من رواية «ديسمبر آخر فصل للحب» للكاتب الجزائري لخضر بن الزهرة، ما زالت راسخة في ذهني لفرط قسوتها، تقول: «أنا ابن رفضته أمه، وأتيتُ رغمًا عنها».

لعنة الابن الأكبر

ذاك الطفل الذي يدفع ثمن مجيئه أولًا في العائلة، أو وحده فيها، ليكون السند الوحيد لأبويه. من لم يساعده أحد في أي مرحلة عمرية في حياته. من يسند الجميع، ويحلّ المشاكل، ولا يرتاح. خُلق كبيرًا ومسؤولًا منذ الصغر، رغمًا عن أنفه. لم يشعر يومًا أنه طفل — والطفولة براءة وأخطاء — هكذا تكون التجربة الشخصية. لم يكن لديه خيار. سُرقت منه طفولته بتكبيل عنق الطفل بمهام ومسؤوليات لا تناسب سنه، ولا تراعي احتياجاته، فنضج قبل الأوان، وكأن العالم بأكمله على كتفيه. طفل أُجبر أن يكون الأهل لأهله بدلًا منهم.

يُجبر ذلك الابن على حياة لا بدائل لها، فتصبح قيدًا يخنق أحلامه، حياة لا خطأ فيها مسموح، لأنه لا يوجد من يُسنده إن تعثّر. سيرى الأهل أنهم صنعوا شخصًا شجاعًا، قادرًا على حمل الأعباء، لكن هناك فرقًا بين من ينضج على مهل، ويعيش ابنًا لوقته، لا تُقطف مشاعره قبل أوانها، ولا يفتقد حيوية أي مرحلة عمرية، فيشبّ محبًا معطاءً بدافع الحب، لا بدافع الواجب.

الكارثة الأكبر عندما يتحوّل الأمر إلى نمط حياة كامل وأسلوب دائم، فيعيش الابن بشكل غير واعٍ، متبنيًا دور المنقذ والمخلّص للجميع. وتدريجيًّا يدفن احتياجاته، ويُهمّش ذاته وأولوياته، ويقدّم التضحيات، لأن المسؤولية باتت رفيقته الوحيدة.

ليعلم ذلك الابن أن طلب المساعدة لن يُنقص منه شيئًا، وأخطاؤه إن وقعت، لن تنهار معها الحياة. لكي تنقذ الآخرين وتكون عونًا لهم، عليك بمراعاة نفسك أولًا. عليك بالإشباع لتقدر على العطاء. هكذا تكون الحياة صحيّة.

عِش وقتك

تحت هذا العنوان العريض الذي لم يُكتب كذلك، نقرأ عن ضحايا الاستمرار في علاقة مؤذية «من أجل الأبناء». يتحوّل البيت إلى شحنة من العصبية والإهانة والإيذاء، بما يترك أثرًا نفسيًا عميقًا يشوّه علاقة الطفل بنفسه وبالآخرين، بما يجعل الفِراق أصح، لأن عيش حياة صحية هو مفتاح الغد.

ما في الغد غيب، أمّا اليوم ففي اليد. التضحية المفرطة مؤلمة، فلا تجعل مفهومك عن الاستمتاع بالحياة يختلّ، فتختزل قيمتك وسعادتك في نعمة بعينها. إذا ما حُرِمتَها، عِشتَ بائسًا. كم مرة ننتظر شيئًا معينًا ونغفل عن الفضل والجمال الذي يحيط بنا؟ يصعب أن نكوّن صورة ذهنية عن العوض بعيدًا عن رؤية البركات الأخرى والنعم. حينها سنُفَوّت على أنفسنا نعمة الاستمتاع بما في اليد، انتظارًا لما قد يأتي في الغد وقد يغيب. رهن الحياة كلها من أجل هذا الشيء الذي قد يغيب ليس من الحكمة في شيء. وربما تحقّق، فأدركت أنه لم يكن بهذا الجمال الذي حسبته، وأوقفتَ حياتك من أجله. تذكّر أن هناك من ينظر لحياتك ويتمناها كما هي.

كثيرًا ما يسرق وقتنا مرض الأحبة، فنُجر إلى التفكير المفرط والاستعدادات لمواجهة المجهول. هذا لا يُنجي، ولا يُجهزنا، أو يُعدّنا لاستقبال الخبر متى وقع. فلتكفّ عن رسم سيناريوهات بائسة لصدمات قد تقع لك ولمن تحب، لأن الله لطيف بعباده، فلا تنفكّ الأقدار عن الألطاف. نحن نسقط ضحايا لتوقعاتنا، ونحرم أنفسنا من المتعة اللحظية ومن عيش الوقت، خوفًا وقلقًا من مستقبلٍ قد لا يقع أصلًا. والحكيم لا يفعل ذلك، ولا ينشغل بما ليس في يده عما هو بين يديه.

أما حين يقع الفقد، فيكون كالثقب الأسود الذي يجلب معه الخواء. فراغ عميق يجذب كل ما يقترب منه. ما يُجدي نفعًا هو بناء تفاصيل جديدة للحياة حوله، بذور تنمو فيقلّ أثره. قد تكون هذه البذور في شكل هواية أو رياضة أو كتابة أو فعلٍ ما مثمر. لن يضير من ماتَ تخليك عن قاع الحزن الذي يثبت الولاء واستمرارية المحبة.

البعض يكتنز الذكريات والصدمات، راغبًا في أن يُشكّله الألم حتى لا يستطيع التخلّي عنه، وإلّا فقد هويته. هم لا يذكرون كيف كانوا قبل الصدمة. ويظلون في دائرة قهرية من الألم المتكرر، عالقين في بحر هائج من الصدمات والذكريات النفسية المؤلمة والمتكررة. يظنون أن الألم طوق نجاة، وأن قيمتهم الحقيقية في الشخصية التي تُعاني. وهكذا يغرقون في دور الضحية، ويتجاهلون فُرص الحياة، بينما غيرهم اختار بشجاعة أن يتعافى وأن يكسر دائرة الألم عنده.

ماذا تقول لنفسك؟

الخطاب الذاتي مهم. هل تقسو على نفسك؟ هل تؤذيها؟ ماذا تُطعمها من كلام؟

تبدأ النجاة بما تُحدث به نفسك، وبالتخلّص ممّن يزرعون فيها الشكوك والألم، أو على الأقل تهميش تأثيرهم النفسي عليك، فالدعم النفسي لا يقلّ عن الدعم المادي. في رواية «سارقة الأرواح» التي تتحدث عن ضحايا الرأسمالية من الموظفين، يقول الكاتب محمد إسماعيل على لسان إحدى الشخصيات: «قد يتكاتف البعض من أجل إحباطك، وربما ينجحون أيضًا، لكن هزيمتك الكاملة تحتاج لتواطؤك أنت شخصيًا معهم».

واعلم أن لكل شخص إنجازات، حتى ولو كانت غير مرئية للآخرين، وهذا لا يقلّل منها. إنجازاتك ليست أقل من غيرك، ولو كانت النهوض من السرير متحديًا الأفكار المظلمة وفقدان الشغف، أو السعي وراء حلم تؤمن به وحدك.

فصولٌ أخرى تتحدث عن رهاب التحدّث، وخذلان الأصحاب ولماذا غابوا وقت الحاجة، وحبس العلاقة مع الآخر في سجن من التوقعات دون معرفة لغة التواصل والتعبير مع شريك الحياة. هذه اللغة التي تُقلّص الفجوات، وتجعل الجروح تلتئم سريعًا، وتزيد قوة العلاقة.

وهناك فزّاعة الراحة من العمل، التي تُبقي المرء في حالة ركض دائم لاكتساب المعارف والشهادات والترقّي في العمل، بما ينعكس على المستوى المعيشي للأسرة وتعليم الأبناء، بما يُنهكه، ولا يدع له وقتًا للاستراحة لنفسه. يثير الأمر في نفسه مخاوف من ترك المنطقة الآمنة، والقفز نحو المجهول. يَعدّه انتحارًا، كالسمكة التي تخرج من الماء فتختنق وتموت.

هل من إجابة نموذجية؟ هناك تجارب تقدَّم «خارج الصندوق»، لكن هناك من لم يبرح مكانه، وظل يُنتج وسعيد، وحقق نموًّا مستدامًا ونجاحًا طويل الأمد. لا توجد منطقة مفتاح لكل شيء، ولا توجد إجابة موحّدة.

الألم منقذ، وإلا لما عرفت أنك مريض. للتعافي ألمٌ كذلك، لكنه الثمن الذي ندفعه لنُكمل حياتنا دون ما يعوقنا، فلا يُنصح باصطحاب الماضي معك إذا أردت بداية جديدة.

# صحة نفسية # المقعد البرتقالي.. حكايات ضحايا لم يعيشوا دور الضحية # مراجعة كتب # كتب

«دليل النجاة الفردية»: خارطة طريق للتعافي من إساءات الأهل
دليلك الشامل لحماية طفلك من التحرش
القلق: أزمة صامتة تهدد الصحة النفسية عالميًا

مجتمع